الله وحفظه أن ألقته أمه فى التابوت ، وألقت التابوت فى البحر ، والتقطته جوارى امرأة فرعون ، فما كادت تراه إلا وقد دخلت قلبها محبته حتى أنها صرخت : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) (القصص ٩) ، أى تسعد به عيوننا كلما رأيناه ، لما فيه من جمال ، وقوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) (طه) ، يعنى اصطفيتك لوحيى ورسالتى ، وخلقتك وقوّيتك وعلّمتك. ومنن الله على موسى كثيرة لا نذكر أن نبيا كان له مثلها. ومن سخرية الأقدار ، أو كما يقول أهل الأدب السخرية الدراميةdramatic irony أن يربيه عدوه مستقبلا وعدو الله ، وينشأ فى بيت من سيتسبب فى موته من بعد ، وحادثته مع الذى قتله ، وهروبه إلى مدين ، رغم أنهما من المصائب والنكبات ، إلا أنهما كانا لخيره وصالحه ، ففي مدين تعرّف إلى زوجته ، وصاهر أفضل رجالها ، وحظى فيها بالمكانة العالية وأنجب الأبناء ، وصار له المال ، وموسى بارتكابه للقتل يكون أول نبى يفعل ذلك ، فلأول مرة يكون فيها نبىّ متهما بجريمة قتل وقعت له عن حق ولم تلفّق له ، والحادثة إن دلّت على شىء فتدل على تعجّل موسى وميله إلى العنف أحيانا ، وكان من شدة أخلاقه أنه لمّا غضب على أخيه كسر الألواح التى نزل بها من الجبل والتى قيل إن الله خطّها بيده. وسينهج على طريقة موسى كثير من أنبياء إسرائيل ، ويفعلون مثله ويتصرفون بعنف لدرجة القتل ، أو يأمرون به ، مثل يشوع ، وإيزايل ، وداود ، وسليمان ، وكان داود محبا لسفك الدماء كما تقول التوراة ، وكذلك سليمان ابنه وكثيرون غيرهم.
* * *
٨١٥. قصة قتل موسى للمصرى
هناك اختلاف فى قصة موسى مع القبطى أو المصرى بين رواية التوراة ورواية القرآن ، ففي التوراة يأتى أن : موسى لمّا كبر خرج إلى إخوته ، ونظر أثقالهم ، فإذا برجل مصرى يضرب رجلا عبرانيا من إخوته (يعنى أنه عبرانى مثل موسى) فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فقتل المصرى وطمره فى الرمل ثم خرج فى اليوم الثانى فإذا برجلين عبرانيين يتضاربان فقال للمعتدى : لما ذا تضرب قريبك ، فقال : من أقامك رئيسا وحاكما علينا أتريد أن تقتلنى كما قتلت المصرى (التكوين ٢ / ١١ ـ ١٢)؟ بينما فى القرآن يأتى قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) (القصص) ، ويتبين من القصتين الآتى :