إن الذى حاجّه هو النمرود وكان جبارا فى الأرض ، والناس يدخلون عليه ساجدين له ، ولم يفعل إبراهيم ، واعتلّ بأنه لا يسجد إلا لربّه ، فسأله عن ربّه ، فوصفه إبراهيم بأنه الذى يحيى ويميت ، قيل أتى النمرود برجلين فأمر بقتل أحدهما وأرسل الآخر ، وقال : وأنا أحيي وأميت ، فقد أحييت هذا وأمتّ هذا. وهذه مغالطة ، فاعتراضه لم يكن دحضا لقول إبراهيم ، ولا جوابا على ما قاله ، ولا هو فى معناه ، ولا يمنع من وجود الصانع ، ومع ذلك ضرب إبراهيم صفحا عن عوار الجواب ، وحمقه ، واعتبر النمرود لم يفهم ، فساق إليه دليلا ومثالا آخرين أوضح من الأولين ، وآثر أن يسوق دليلا مفحما لا يحتمل سوء فهم المعاند ، فكان دليل الشمس : أنها تأتى من المشرق فأت بها من المغرب. والدليل ـ كما ترى ـ مبهت ، أى قاطع للحجة ، فما كان بوسعه ولا بوسع أحد أن يأتى بالشمس من المغرب ، إلا أن النمرود كذلك لم يكن مجادلا ، لأنه كان بوسعه أن يطلب أن يسأله :
وهل يستطيع ربّك أن يأتى بها من المغرب؟ وأن يتحدّاه أن يطلب ذلك من ربّه ، وهكذا تستمر المناظرة بلا نهاية ، إلا أن الرجل اقتنع ، لأن ما لا يقدر أحد على استحداثه ، لا بد أن يكون له محدث يتولى إحداثه وحفظه ، فإن كان دأب الشمس أن تظهر من المشرق وتختفى فى المغرب ، فذلك لأن من صنعها جعلها على هذه الهيئة واستن لها هذا الناموس. والنمرود بوسعه أن يأمر بقتل إنسان أو يعفو عن آخر ولكنه ليس بوسعه أن يخلق من عدم ، والله وحده هو الخالق من عدم. والآية تدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة.
* * *
٣٥٣. الاحتجاج بدليل العقل على أن الجماد لا يخلق أحياء ولا أشياء
ينفى العقل أن يكون الله جمادا ، وأن يكون هناك إله دون الله ـ يقول تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) (الأحقاف) ، وقوله : «ما ذا خلقوا» هو احتجاج بدليل العقل : أن الصنم الحجر يصحّ أن يكون إلها من دون الله ، لأن الحجارة لا تضر ولا تنفع. و «الأثارة من علم» هى الأثر مما كان يعلمه الأقدمون ، مما يقال له العلم المأثور ، أو مأثور العلم. ودعاوى الألوهية لغير الله أو أنهم شركاؤه فى خلق السموات والأرض ، دعاوى متهافتة لأنه لم يحدث أن أيا مما يدعون آلهة خلقت شيئا ، فلا عيسى خلق ، ولا اليهود خلقوا ، ولا بوذا ، ولا كونفوشيوس خلق ، ولا أى مما يزعمون ، باستطاعته أن يخلق كائنا تدب فيه الحياة ويتكاثر ويصبح له نسل وذرية.