المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلّا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ولا ينفقه إلّا على ذلك ، فهو يحاسب فلا يحاسب ، ولهذا روي : من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة! وعلى هذا قال تعالى لسليمان : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [ص : ٣٩].
الثامن : أنّ الله عزوجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه ، كما قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ..) [البقرة : ٢٤٥] الآية.
التاسع : وهو يقارب ذلك : أنّ ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم ، وعلى ذلك قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) [الزخرف : ٧١] الآية ، وقوله : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ...) الآية.
وأما تعلقه بما تقدم ، فعلى بعض هذه التفاسير ، يتعلق بالذين كفروا ، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا.
القول في تأويل قوله تعالى :
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣)
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي : وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد ، وتحسن ولا تسيء ، وتعدل ولا تظلم ؛ أي : ما وجدوا إلّا ليكونوا كذلك ، كما قال في الآية الأخرى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [يونس : ١٩] أي : انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق ، الذي يثمر كلّ خير لهم وسعادة ، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل. ولما كانوا لم يخلقوا سدى منّ الله عليهم بما يبصّرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء ، وما نزل معهم من الكتاب الفصل ، كما أشارت تتمة الآية (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره ، وأرسلهم إلى خلقه (مُبَشِّرِينَ) لمن آمن وأطاع (وَمُنْذِرِينَ) لمن كفر وعصى (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي : كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة