بهذا الطعام والشراب ، ما يغذّيه الله به من المعارف ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعّمه بحبّه ، والشوق إليه ؛ وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ، ونعيم الأرواح ، وقرّة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب. بما هو أعظم غذاء ، وأجوده ، وأنفعه. وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدّة من الزمان.
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيوانيّ. ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه ، وتنعّم بقربه والرضاء عنه. وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كلّ وقت. ومحبوبه حفيّ به ، معتزّ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له. أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحبّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه ، ولا أعظم ، ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحسانا ، إذا امتلأ قلب المحبّ بحبّه ، وملك حبّه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكّن حبه منه أعظم تمكّن؟ وهذا حاله مع حبيبه. أفليس هذا المحبّ عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا؟ ولهذا قال : إنّي أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني. ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم ـ كما قيل ـ لما كان صائما. فضلا عن كونه مواصلا. كذا في (زاد المعاد).
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة. وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم. لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة والله أعلم.
قال ابن كثير : ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاديّ من باب الشفقة. كما جاء في حديث عائشة (١) : رحمة لهم. فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه. لأنهم كانوا يجدون قوة عليه.
(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره. فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه. وقال الضحاك : كان الرجل إذا
__________________
(١) أخرجه البخاريّ في : الصوم ، ٤٨ ـ باب الوصال ، عن عائشة : قالت : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الوصال ، رحمة لهم. فقالوا : إنك تواصل؟ قال «إني لست كهيئتكم. إنى يطعمني ربي ويسقين». وأخرجه مسلم في : الصيام ، حديث ٦١.