هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وروى ذلك البخاريّ في صحيحه.
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية ، ثم حدثت المرجئة. ثم قال : وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم فيبدأ بالخوارج. ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية ، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه ، كعبد الله ابنه ، ونحوه ، وكالخلّال ، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ، وكأبي الفرج المقدسيّ. وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ، لأنهم أغلظوا البدع. وكالبخاريّ في صحيحه. فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة ، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية.
ثم قال قدسسره : إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف ، صار أهل التفرق والاختلاف شيعا ، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك. ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفها تأولوه ، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى ، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك ؛ والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن. ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها. ثم قال قدسسره : فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعا لقوله ، وعلمه تبعا لأمره ، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين. فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينا غير ما جاء به الرسول. وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه ، نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنة.
وقال قدسسره في رسالته إلى جماعة الشيخ عديّ بن مسافر ما نصه : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة :