ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره.
ثم قال : ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولي العزم.
(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) سبق الكلام فيه.
قال الزمخشريّ : فإن قلت فلم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات. فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات ، خصّا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلىاللهعليهوسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها ، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).
قال الزمخشريّ : كرره للتأكيد. قال الناصر في حواشيه : ووراء التأكيد سر أخص منه. وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول ، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها. وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك. وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى. منها قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل : ١٠٦] ، ومنها قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ـ إلى قوله ـ (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) [الفتح : ٢٥]. وهذه الآية من هذا النمط. لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء ، فهي نافذة في كل فعل واقع. وهو المعنى المعبر عنه في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام ويعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح له الصدر ، ويرتاح له السر. والله الموفق.