وهو منهج رفيع طليق .. الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية .. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب .. إنما معناه المحاولة المسترة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها .. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما. كما أسلفنا.
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان. أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه .. وهذا هو الانطلاق. انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية. وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم ..
* * *
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب. لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة. وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير. إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب.
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص. ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات.
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء. وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة. فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة ..
* * *
ومعنى أن الله أحد : أنه الصمد. وأنه لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد .. ولكن القرآن يذكر هذه التفريعات لزيادة التقرير والإيضاح :
(اللهُ الصَّمَدُ) .. ومعنى الصمد اللغوي : السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه. والله ـ سبحانه ـ هو السيد الذي لا سيد غيره ، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات ، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه ، ولا يقضي أحد معه .. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.
(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) .. فحقيقة الله ثابتة أبدية أزلية ، لا تعتورها حال بعد حال. صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال. والولادة انبثاق وامتداد ، ووجود زائد بعد نقص أو عدم ، وهو على الله محال. ثم هي تقتضي زوجية. تقوم على التماثل. وهذه كذلك محال. ومن ثم فإن صفة (أَحَدٌ) تتضمن نفي الوالد والولد ..
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .. أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ. لا في حقيقة الوجود ، ولا في حقيقة الفاعلية ، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية. وهذا كذلك يتحقق بأنه (أَحَدٌ) ولكن هذا توكيد وتفصيل .. وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلها يعاكس الله ـ بزعمهم ـ ويعكس عليه أعماله الخيرة