(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ. قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١).
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله. والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله. بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله ـ بزعمهم ـ فكانوا يعدون أنفسهم أهدى. لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى .. وكله شرك. وليس في الشرك خيار. ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا!
فلما جاءهم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : إن دينه هو دين إبراهيم ـ عليهالسلام ـ قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط!
ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه .. لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية!
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق .. نزلت هذه السورة. بهذا الجزم. وبهذا التوكيد. وبهذا التكرار. لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير :
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
نفي بعد نفي. وجزم بعد جزم. وتوكيد بعد توكيد. بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد ..
(قُلْ) .. فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده. ليس لمحمد فيه شيء. إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم الذي لا راد لحكمه.
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) .. ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم .. إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون. فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق ..
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال!
(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) .. فعبادتي غير عبادتكم ، ومعبودي غير معبودكم ..
(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فعبادتكم غير عبادتي ، ومعبودكم غير معبودي.
(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) .. توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الاسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها.
(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) .. تكرار لتوكيد الفقرة الثانية. كي لا تبقي مظنة ولا شبهة ، ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد!
__________________
(١) يراجع تفسير هذه الآيات في سورة الأنعام الجزء الثامن ص ١٢١٧ ـ ١٢٢٢.