حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال. ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال. إنه الإيمان. لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام ، أو في بيت يقول : إنه من المسلمين. ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل. وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض ، والحكم بين الناس بما شرع الله. فمن كانوا كذلك فهم خير البرية.
(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ..
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات. والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض .. كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال! ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :
(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ..
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم .. وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم. الرضا عن قدره فيهم. والرضا عن إنعامه عليهم. والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم. الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق ..
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته .. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال!
(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ..
وذلك هو التوكيد الأخير. التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن كل انحراف .. الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار. والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره. فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه. وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك. فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله.
* * *
تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة الصغيرة ، يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص ، الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار ..
* * *