.. ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين. والنجد الطريق المرتفع. وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود.
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة «النظرية النفسية الإسلامية» هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (وسنرجىء عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا).
* * *
هذه الآلاء التي أفاضها الله على جنس الإنسان في خاصة نفسه ، وفي صميم تكوينه ، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى : عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان ؛ وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه. ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير ؛ وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير. والكلمة أحيانا تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر ؛ وأحيانا تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه. في هذه النار .. «عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلىاللهعليهوسلم في سفر ، فأصبحت يوما قريبا منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار. قال : سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين ، ثم تلا قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ....) ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : كف عليك هذا ، وأشار إلى لسانه. قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال : ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال : على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم؟» رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وهدايته إلى إدراك الخير والشر ، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار ، وإعانته على الخير بهذه الهداية .. هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا (الْإِنْسانَ) إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة. هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات :
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ .. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ..
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان ـ إلا من استعان بالإيمان ـ هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة. لو تخطاها لوصل! وتصويرها كذلك حافز قوي ، واستجاشة للقلب البشري ، وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم .. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)! ففيه تحضيض ودفع وترغيب!
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ!) .. إنه ليس تضخيم العقبة ، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ، ليحفز به (الْإِنْسانَ) إلى اقتحامها وتخطيها ؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد. فالكبد واقع واقع. وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده ، ولا يذهب ضياعا وهو واقع واقع على كل حال!