في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير ، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة ، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة ، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهمّ من آمن وهمّ من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة ، وتقل الاستجابة ، ويكثر المعرضون والمخاصمون.
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة ، هذه التوجيهات المتكررة للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله .. ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان ..
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول ، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. ولا يذهب المكذبون ناجين ، ولا يتولون سالمين. إن هنالك الله وإليه تصير الأمور :
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) ..
وهم راجعون إلى الله وحده قطعا ، وهو مجازيهم وحده حتما. وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد.
(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ..
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة. ودور كل داعية إليها بعده .. إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله. ولا مفر لهم من العودة إليه ، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه. غير أنه ينبغي أن يفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير. فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء ، بلا تقصير فيها ولا اعتداء ..
* * *