بهذا المطلع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله ، ولتذكرهم بآياته في الوجود ، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد. وبهذا الاستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقرير ؛ الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير. وتسمى القيامة هذا الاسم الجديد : (الْغاشِيَةِ) .. أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها. وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء .. الطامة .. الصاخة .. الغاشية .. القارعة .. مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة.
وهذا الخطاب : (هَلْ أَتاكَ ..؟) كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يحس وقع توجيهه إلى شخصه ، حيثما سمع هذه السورة ، وكأنما يتلقاه أول مرة مباشرة من ربه ، لشدة حساسية قلبه بخطاب الله ـ سبحانه ـ واستحضاره لحقيقة الخطاب ، وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه .. قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عباس ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن ميمون ، قال : مر النبي ـ صلىاللهعليهوسلم على امرأة تقرأ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) فقام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني» ..
والخطاب ـ مع ذلك ـ عام لكل من يسمع هذا القرآن. فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر. يذكر به وينذر ويبشر ؛ ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس ؛ كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع. ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل.
* * *
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) .. ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ..
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم ؛ فهو أقرب إلى جو (الْغاشِيَةِ) وظلها .. فهناك : يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ؛ عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ، ولم تجد إلا الوبال والخسارة ، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا ، فهي : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) .. عملت لغير الله ، ونصبت في غير سبيله. عملت لنفسها ولأولادها. وتعبت لدنياها ولأطماعها. ثم وجدت عاقبة العمل والكد. وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد. ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب. وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء! ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) وتذوقها وتعانيها.
(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) .. حارة بالغة الحرارة .. (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) .. والضريع قيل : شجر من نار في جهنم. استنادا إلى ماورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم. وقيل : نوع من الشوك اللاطئ بالأرض ، ترعاه الإبل وهو أخضر ، ويسمى «الشبرق» فإذا جني صار اسمه «الضريع» ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة. إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم ، الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية ، ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه ، وهو شوك لا نفع فيه ولا غناء .. من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم. وعذاب الآخرة