لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، لا نملك تقصيها في هذه الظلال .. تشهد كلها بالتقدير والتدبير. وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة. وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق. كما تمهد للحقيقة التالية. حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون ، المخاطبون أول مرة بهذه السورة ..
* * *
(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) ..
إنه ـ الله الذي أنشأه ورعاه ـ إنه لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، تشهد النشأة الأولى بقدرته ، كما تشهد بتقديره وتدبيره. فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) .. السرائر المكنونة ، المطوية على الأسرار المحجوبة .. يوم تبلى وتختبر ، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر ؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفقة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) .. ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته .. والتكشف من كل ستر ، مع التجرد من كل قوة ، يضاعف شدة الموقف ؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير. وهو ينتقل من الكون والنفس ، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة ، إلى نهاية المطاف هناك ، حيث يتكشف ستره ويكشف سره ، ويتجرد من القوة والنصير ..
* * *
ولعل طائفا من شك ، أو بقية من ريب ، تكون باقية في النفس ، في أن هذا لا بد كائن .. فمن ثم يجزم جزما بأن هذا القول هو القول الفصل ، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون ، كما صنع في مطلع السورة :
(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) ..
والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة ، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق .. وهما يمثلان مشهدا للحياة في صورة من صورها. حياة النبات ونشأته الأولى : ماء يتدفق من السماء ، ونبت ينبثق من الأرض .. أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب ؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم. الحياة هي الحياة. والمشهد هو المشهد. والحركة هي الحركة .. نظام ثابت ، وصنعة معلمة ، تدل على الصانع. الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر!
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق. النجم الثاقب. وهو يشق الحجب والستائر. كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر .. صنعة واحدة تشير إلى الصانع!
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين : السماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع .. حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما ، كما يوحي جرس التعبير ذاته ، بالشدة والنفاذ والجزم .. يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء ـ أو بأن هذا القرآن عامة ـ هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل. القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب. القول الذي ليس بعده قول. تشهد بهذا السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع!
* * *
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو ومن