الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة. فظل في دائرة الطاعة.
ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان ، وكل تجاوز ، وكل معصية. وهو أساس البلوى ، وينبوع الشر ، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى. فالجهل سهل علاجه. ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة. وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة. فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها ، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها ، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها ، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها!
ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى. فهو ـ سبحانه ـ يعلم أن هذا خارج عن طاقته. ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها. وأن يستعين في هذا بالخوف. الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب. وكتب له بهذا الجهاد الشاق ، الجنة مثابة ومأوى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) .. ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد ؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى.
إن الإنسان إنسان بهذا النهي ، وبهذا الجهاد ، وبهذا الارتفاع. وليس إنسانا بترك نفسه لهواها ، وإطاعة جواذبه إلى دركها ، بحجة أن هذا مركب في طبيعته. فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى ، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه ، ونهي النفس عنه ، ورفعها عن جاذبيته ؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى.
وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان. تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة ، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني. وهنالك حرية حيوانية ، هي هزيمة الإنسان أمام هواه ، وعبوديته لشهوته ، وانفلات الزمام من إرادته. وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفا من الحرية!
إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى. أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته ، ويرتد شيئا توقد به النار التي وقودها الناس ـ من هذا الصنف ـ والحجارة!
وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء ..
* * *
وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلا عميقا مديدا :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ : أَيَّانَ مُرْساها؟ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) ..
وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء .. متى أو أيان موعدها .. أو كما يحكي عنهم هنا : (أَيَّانَ مُرْساها؟) ..
والجواب : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟) .. وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها ، بحيث يبدو هذا السؤال تافها باهتا ، وتطفلا كذلك وتجاوزا. فها هو ذا يقال للرسول العظيم : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟) .. إنها لأعظم