للإسلام ، وتناوشه من كل جانب ؛ والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيا كما تقتضي العقيدة ذلك.
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين ؛ فارتعشت له قلوبهم ، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ، ويذهب بحسناتهم ..
قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : كان أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .. فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
وروي من طريق عبد الله بن المبارك ، أخبرني بكر بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : «كنا معشر أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .. فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش. حتى نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) .. فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك. فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها.
ومن هذه النصوص يتجلى كيف كانت نفوس المسلمين الصادقين تتلقى آيات القرآن : كيف تهتز لها وتضطرب ، وكيف ترتجف منها وتخاف ، وكيف تحذر أن تقع تحت طائلتها ، وكيف تتحرى أن تكون وفقها ، وأن تطابق أنفسها عليها .. وبهذه الحساسية في تلقي كلمات الله كان المسلمون مسلمين من ذلك الطراز! ثم بين الله لهم في الآية التالية مصير الذين يشاقون رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويخرجون عن طاعته ، ثم يصرون على هذا ، ويذهبون من هذه الأرض كافرين :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ..
فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا ؛ وباب التوبة يظل مفتوحا للكافر وللعاصي حتى يغرغر. فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة ، فقد ذهبت الفرصة التي لا تعود.
ومثل هذه الآية يخاطب المؤمنين كما يخاطب الكفار. فأما هؤلاء فهي نذارة لهم ليتداركوا أمرهم ويتوبوا قبل أن تغلق الأبواب. وأما أولئك فهي تحذير لهم وتنبيه لاتقاء كافة الأسباب التي تقرب بهم من هذا الطريق الخطر المشئوم!
ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين :
(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ..
فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه ، ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول ، ليحذروا شبحه من بعيد! وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة ؛ وتهن عزائمهم دونه ؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب. وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم ، أو ذوي مصالح وأموال ؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة. فالنفس البشرية هي