مناسبة تعرض. فإن كان المسلمون في شدة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم ؛ وإذا كانوا في رخاء ظلت الدسائس سرية والمكايد في الظلام! وكانوا إلى منتصف العهد المدني يؤلفون خطرا حقيقيا على الإسلام والمسلمين.
وقد تواتر ذكر المنافقين ، ووصف دسائسهم ، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدينة ؛ كما تكرر ذكر اتصالهم باليهود ، وتلقيهم عنهم ، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة. وهذا أحد المواضع التي وردت فيها الإشارة إلى المنافقين ، والإشارة كذلك إلى اليهود.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : ما ذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ..
ولفظة : (وَمِنْهُمْ) تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة : باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر ، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية.
كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم ، متظاهرون بالإسلام معهم. وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم ، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس.
ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم ، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة ، والحديث فيها عن المنافقين.
وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والاستماع معناه السماع باهتمام ـ يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقلوبهم لاهية غافلة. أو مطموسة مغلقة. كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : إن ما يقوله محمد لا يفهم ، أو لا يعني شيئا يفهم. فهاهم أولاء مع استماعهم له ، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه ـ كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم ـ فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية .. وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين :
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ..
ذلك حال المنافقين. فأما حال المهتدين فهو على النقيض :
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ..
وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر. فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء ، فكافأهم الله بزيادة الهدى ، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) .. والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله ، شاعرا برقابته ، خائفا من غضبه ، متطلعا إلى رضاه ، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها .. هذه الحساسية المرهفة هي التقوى .. وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله.
والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة.