مقصود بصورته هذه وحركته ، والتعبير يحمل في إيقاعه وجرسه صورة هذا المشهد وفرقعته في انقضاضه وتحطمه!
وعلى مشهد التدمير والتحطيم والردم ، يلوح للحاضرين من الكافرين ، ولكل من يتصف بهذه الصفة بعد ، بأنها في انتظارهم. هذه الوقعة المدمرة التي تدمر عليهم كل شيء وتدفنهم بين الأنقاض : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها)!
وتفسير هذا الأمر الهائل المروع الذي يدمر على الكافرين وينصر المؤمنين هو القاعدة الأصيلة الدائمة :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ...
ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه ، وفيه الكفاية والغناء ؛ وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير. لا تخليا من الله عن ولايته له ، ولا تخلفا لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده. ومن لم يكن الله مولاه فلا مولى له ، ولو اتخذ الإنس والجن كلهم أولياء. فهو في النهاية مضيع عاجز ؛ ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي يعرفها الناس!
* * *
ثم يوازن بين نصيب الذين آمنوا ونصيب الذين كفروا من المتاع بعد ما بيّن نصيب هؤلاء وهؤلاء فيما يشتجر بينهم من قتال ونزال. مع بيان الفارق الأصيل بين متاع ومتاع :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ..
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع ؛ ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين ـ وهو نصيبهم في الجنة ـ والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه.
ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار. فالله هو الذي يدخلهم. وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع. وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح ، متناسقا في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح.
ونصيب الذين كفروا متاع وأكل (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) .. وهو تصوير زري ، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه ؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره ، والمتاع الحيواني الغليظ. بلا تذوق ، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح .. إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة ، ولا من اختيار ، ولا حارس عليه من تقوى ، ولا رادع عنه من ضمير.
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل ، ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم ، وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع ، كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته ، والذي له قيم خاصة للحياة ؛ فهو يختار الطيب عند الله. عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة ، ولا يضعفها هتاف اللذة. ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام ، وفرصة متاع ؛ بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح!
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان : أن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة ، المتلقاة من الله خالق الحياة. فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله.
* * *