من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول :
«ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش. وكان ذا سن فيهم ؛ وقد حضر الموسم. فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ؛ فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به. قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول : كاهن. قال : لا والله ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا : فنقول : شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا : فنقول : ساحر. قال : ما هو بساحر ؛ لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم .. قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة (١) وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس ـ حين قدموا الموسم ـ لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره ...»
وحكى عن الثاني (النضر بن الحارث) قال :
«فقال يا معشر قريش. إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر! لا والله ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم. وقلتم : شاعر! لا والله ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم : مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم ...».
والمطابقة تكاد تكون تامة ـ بين قوله وقول عتبة. وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك. ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن!
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء .. وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به ..
فما كان قولهم : ساحر أو كاهن ، إلا حيلة ما كرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير. وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون : إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر. ولا بقول كاهن .. إنما هو تنزيل من رب العالمين.
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه ، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر. لا يقوله شاعر ، ولا يقوله كاهن ، إنما يقوله رسول ، يرسل به من عند الله ، فيحمله من هناك ، من ذلك المصدر الذي أرسله.
__________________
(١) العذق : الكثير الشعب والأطراف. والجناة : ما فيه ثمر يجنى.