والجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق. وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس. في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير.
إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق!
* * *
(الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ؟. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) ..
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة. ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا. فالحاقة هي التي تحق فتقع. أو تحق فتنزل بحكمها على الناس. أو تحق فيكون فيها الحق .. وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها. ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها ؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها. في الدنيا وفي الآخرة جميعا.
والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع. وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضالة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى ؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة ، عند ما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية ، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة ؛ فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى. وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع.
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله .. تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره. فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : (الْحَاقَّةُ) .. ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم : (مَا الْحَاقَّةُ؟) .. ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل ، وإخراج المسألة عن حدود العلم والإدراك : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) .. ثم يسكت فلا يجيب على هذا السؤال. ويدعك واقفا أمام هذا الأمر المستهول المستعظم ، الذي لا تدريه ، ولا يتأتى لك أن تدريه! لأنه أعظم من أن يحيط به العلم والإدراك!
* * *
ويبدأ الحديث عن المكذبين به ، وما نالهم من الهول ، وما أخذوا به من القصم ، فذلك الأمر جدّ لا يحتمل التكذيب ، ولا يذهب ناجيا من يصر فيه على التكذيب :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟).
وهذا اسم جديد للحاقة. إنها فوق أنها تحق .. فهي تقرع .. والقرع ضرب الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله. والقارعة تقرع القلوب بالهول والرعب ، وتقرع الكون بالدمار والحطم. وها هي ذي بجرسها تقعقع وتقرقع ، وتقرع وتفزع .. وقد كذبت بها ثمود وعاد. فلننظر كيف كانت عاقبة التكذيب ..
(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) ..