وهنا يقول : إنه لو لا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم. أي مذموم من ربه .. على فعلته. وقلة صبره. وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن الله له. ولكن نعمة الله وقته هذا ، وقبل الله تسبيحه واعترافه وندمه. وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ..
هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت. يذكر الله بها رسوله محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في موقف العنت والتكذيب. بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة ، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد. وقتما يريد. وكلفه الصبر لحكم الله وقضائه في تحديد الموعد ، وفي مشقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب!
إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله ، حتى يأتي موعده ، في الوقت الذي يريده بحكمته. وفي الطريق مشقات كثيرة. مشقات التكذيب والتعذيب. ومشقات الالتواء والعناد. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون. ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق ، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق ، مهما تكن مشقات الطريق .. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق .. أما المعركة ذاتها فقد قضى الله فيها ، وقدر أنه هو الذي يتولاها ، كما قدر أنه يملي ويستدرج لحكمة يراها. كذلك وعد نبيه الكريم ، فصدقه الوعد بعد حين.
* * *
وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه ، ويصفها القرآن بما لا مزيد عليه :
(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ. وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ).
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن ، وحمى وسم .. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح ، والشتم البذيء ، والافتراء الذميم : (وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ..
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة. فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين ، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم!
يعقب عليه بالقول الفصل الذي ينهي كل قول :
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).
والذكر لا يقوله مجنون ، ولا يحمله مجنون ..
وصدق الله وكذب المفترون ..
* * *
ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة (لِلْعالَمِينَ) .. هنا والدعوة في مكة تقابل بذلك الجحود ، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة ، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون .. وهي في هذا الوقت المبكر ، وفي هذا الضيق المستحكم ، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة ـ كما يدعي المفترون اليوم ـ إنما كانت صفة مبكرة في أيام مكة الأولى. لأنها