ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة ـ جنة الدنيا لا جنة الآخرة ـ وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة ـ كما تقول الروايات ـ على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم .. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن!
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ).
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين. وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه .. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه ، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم .. إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام :
(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (١) ..
فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتا لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون.
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا ، وينادي بعضهم بعضا لينفذوا ما اعتزموا :
(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ : أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) ..
يذكر بعضهم بعضا ويوصي بعضهم بعضا ، ويحمس بعضهم بعضا!
ثم يمضي السياق في السخرية منهم ، فيصورهم منطلقين ، يتحدثون في خفوت ، زيادة في إحكام التدبير ، ليحتجنوا الثمر كله لهم ، ويحرموا منه المساكين!
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ : أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)!!!
وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها .. أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام ، فتذهب بثمرها كله. ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب! فلنمسك أنفاسنا إذن ، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.
إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين :
(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ)!
أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان .. حرمان أنفسهم على أقل تقدير!!
وها هم أولاء يفاجأون. فلننطلق مع السياق ساخرين. ونحن نشهدهم مفجوئين :
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ) ..
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار. فقد ضللنا إليها الطريق! .. ولكنهم يعودون فيتأكدون :
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ..
وهذا هو الخبر اليقين!
والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت ، وعاقبة البطر والمنع ، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم ـ
__________________
(١) كأنها مقطوعة الثمار. فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بكل ثمرها!