بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة. وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق!
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليدهن لهم ويلين ؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان حاسما في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)!
ولم يساوم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته. وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفا لقلوبهم ، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد ..
روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :
«فلما بادى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قومه بالإسلام. وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ـ فيما بلغني ـ حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ـ إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون ـ وحدب على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على أمر الله مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء.
«فلما رأت قريش أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب .. عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية. وأبو البختري واسمه العاص بن هشام. والأسود بن المطلب بن أسد. وأبو جهل (واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى أبا الحكم) والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر .. أو من مشى منهم .. فقالوا : يا أبا طالب. إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ؛ فنكفيكه! فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه.
«ومضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على ما هو عليه : يظهر دين الله ، ويدعو إليه. ثم شري (١) الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وتذامروا (٢) فيه. وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى. فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ؛ وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ـ أو كما قالوا
__________________
(١) زاد واشتد.
(٢) تغيظوا وحض بعضهم بعضا عليه.