كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه
بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر. إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود.
دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله. وهو يعلم من هو
الله. هو بخاصة يعلم من هو الله! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك
ويتلقى ويسير ... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!!
إنه محمد ـ وحده
ـ هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد ـ وحده ـ هو الذي يبلغ قمة
الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني. إنه محمد ـ وحده ـ هو
الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ؛ حتى لتتمثل في شخصه حية ،
تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد ـ وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا
المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته ـ وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في
الأخرى أنه ـ جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ). وهو ـ جل شأنه ـ وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده
ذلك الفضل العظيم ..
* * *
ثم إن لهذه
اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله ؛ وأصالة هذا العنصر في
الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.
والناظر في هذه
العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم
عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه
العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ،
ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير ؛ والنهي عن الجور والظلم
والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ،
وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس
وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع.
وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.
والرسول الكريم
يقول : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل. وتتوارد
أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية
، وصورة رفيعة ، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. فيمجد بهذا الثناء نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به
هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه ـ سبحانه
ـ وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.
وهذا الاعتبار
هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من
اعتبارات أرضية إطلاقا ؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو
المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على
السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق. وتستمد من صفات الله
المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة ، كي يحققوا إنسانيتهم العليا ، وكي يصبحوا
أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض ؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ) .. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي
اعتبارات قائمة في الأرض ؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها
تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد.
ثم إنها ليست
فضائل مفردة : صدق. وأمانة. وعدل. ورحمة. وبر .... إنما هي منهج متكامل ، تتعاون