علم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض. ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة. وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى.
ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) .. وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي ـ الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة ـ ولكنه بدأ الوحي إليه منوها بالقراءة والتعليم بالقلم. ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون. وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون.
* * *
يقسم الله ـ سبحانه ـ بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها.
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ..
فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي .. يثبت نعمة الله على نبيه ، في تعبير يوحي بالقربى والمودة : حين يضيفه سبحانه إلى ذاته : (رَبُّكَ). وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله ، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه ..
وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في قومه ، من قولتهم هذه عنه ، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة. وهم الذين لقبوه بالأمين ، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته ، بعد عدائهم العنيف له ، فقد ثبت أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ تخلف عن رسول الله أياما في مكة ، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده ؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف. وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة. فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته؟ قال أبو سفيان ـ وهو عدوه قبل إسلامه ـ لا ، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله!
إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم ، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم. ولكن الحقد يعمي ويصم ، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج! وقائلها يعرف قبل كل أحد ، أنه كذاب أثيم!
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .. هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم ، ردا على ذلك الحقد الكافر ، وهذا الافتراء الذميم.
(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) ..
وإن لك لأجرا دائما موصولا ، لا ينقطع ولا ينتهي ، أجرا عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم .. وهو إيناس كذلك وتسرية وتعويض فائض غامر عن كل حرمان وعن كل جفوة وعن كل بهتان يرميه به المشركون. وماذا فقد من يقول له ربه : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)؟ في عطف وفي مودة وفي تكريم؟
* * *