نفس فرغت من كل خير. كما فرغت من كل صفة تجعل لها اعتبارا في الوجود ، فهي كالحجر الذي توقد به جهنم. وقد انتهت إلى نكسة وارتكاس مكانها هذه النار ، إلى غير نجاة منها ولا فرار!
والنفس التي تكفر بالله في الأرض تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه ، حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة شنيعة ، صورة منكرة جهنمية نكيرة. صورة لا يماثلها شيء في هذا الكون في بشاعتها ومسخها وشناعتها. فكل شيء روحه مؤمنة ، وكل شيء يسبح بحمد ربه ، وكل شيء فيه هذا الخير ، وفيه هذه الوشيجة التي تشده إلى محور الوجود .. ما عدا هذه النفوس الشاردة المفلتة من أواصر الوجود ، الآبدة الشريرة ، الجاسية الممسوخة النفور. فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه ، وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود؟ إنها تنتهي إلى جهنم المتغيظة المتلمظة ، الحارقة ، المهدرة لكل معنى ولكل حق ولكل كرامة ؛ بعد أن لم يعد لتلك النفوس معنى ولا حق ولا كرامة!
والمألوف في سياق القرآن أن يعرض صفحتين متقابلتين في مشاهد القيامة. فهو يعرض هنا صفحة المؤمنين في مقابل صفحة الكافرين ، تتمة لمدلول الآية الثانية في السورة : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) .. بذكر الجزاء بعد ذكر الابتلاء :
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..
والغيب المشار إليه هنا يشمل خشيتهم لربهم الذي لم يروه ، كما يشمل خشيتهم لربهم وهم في خفية عن الأعين ، وكلاهما معنى كبير ، وشعور نظيف ، وإدراك بصير. يؤهل لهذا الجزاء العظيم الذي يذكره السياق في إجمال : وهو المغفرة والتكفير ، والأجر الكبير.
ووصل القلب بالله في السر والخفية ، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون ، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير .. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : قالوا : يا رسول الله إنا نكون عندك على حال ، فإذا فارقناك كنا على غيره. قال : «كيف أنتم وربكم؟» قالوا : الله ربنا في السر والعلانية. قال : «ليس ذلكم النفاق» ..
فالصلة بالله هي الأصل. فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول.
* * *
وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها ، في تقرير علم الله بالسر والجهر ، وهو يتحدى البشر. وهو الذي خلق نفوسهم ، ويعلم مداخلها ومكامنها ، التي أودعها إياها :
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ؛ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟). أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم الله سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) التي لم تفارق الصدور! عليم بها ، فهو الذي خلقها في الصدور ، كما خلق الصدور! (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟) ألا يعلم وهو الذي خلق؟ (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟) الذي يصل علمه إلى الدقيق الصغير والخفي المستور.
إن البشر وهم يحاولون التخفي من الله بحركة أو سر أو نية في الضمير ، يبدون مضحكين! فالضمير الذي يخفون فيه نيتهم من خلق الله ، وهو يعلم دروبه وخفاياه. والنية التي يخفونها هي كذلك من خلقه وهو يعلمها ويعلم أين تكون. فماذا يخفون؟ وأين يستخفون؟