والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية ، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني ؛ وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافا بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض ، واستحقاقهم للجزاء على العمل : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) .. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا متلفتا واعيا للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح. ومن ثم يجيء التعقيب : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه. فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب ، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار ، وحذر وتوقى ، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح!
إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب ، لا يطارد البشر ، ولا يعنتهم ، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم ؛ وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير.
* * *
ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه ؛ كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة ، بعد الابتلاء بالموت والحياة :
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ. وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ، كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى! قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ!.)
وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى ، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك ، وللقدرة التي لا يقيدها قيد. ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء ، ثم الجزاء ..
والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها الآية لا يمكن الجزم بمدلولها ، استقاء من نظريات الفلك ، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح ، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف. ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح. ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات. وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوتة.
والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله ، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة. يوجه النظر إلى خلق الله ، وهو يتحدى بكماله كمالا يرد البصر عاجزا كليلا مبهورا مدهوشا.
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) .. فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب .. (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) .. وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟) .. وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل؟ (ثُمَ