فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير ، وتضحية الكثير. كما يتعرض هو وأهله للعنت. وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده. فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدوا له ، لأنهم صدوه عن الخير ، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا. كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه ، اتقاء لما يصيبهم من جرائه ، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه ، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله .. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات .. وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن.
ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة ، التحذير من الله ، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا ، والحذر من تسلل هذه المشاعر ، وضغط هذه المؤثرات.
ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد. وكلمة فتنة تحتمل معنيين :
الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم ، فانتبهوا لهذا ، وحاذروا وكونوا أبدا يقظين لتنجحوا في الابتلاء ، وتخلصوا وتتجردوا لله. كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب!
والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله.
وكلا المعنيين قريب من قريب.
وقد روى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن بريدة : سمعت أبي بريدة يقول : «كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يخطب ، فجاء الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ عليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من المنبر فحملهما ، فوضعهما بين يديه. ثم قال : «صدق الله ورسوله. إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» .. ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد. فهذا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهذان ابنا بنته .. وإنه لأمر إذن خطير. وخطر. وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس ، وأودعها هذه المشاعر ، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط ، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو ، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء!
ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد ، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج. فهذه فتنة (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ..
ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة ، وبالسمع والطاعة :
(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ـ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ..
وفي هذا القيد : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) يتجلى لطف الله بعباده ، وعلمه بمدى طاقتهم في تقواه وطاعته. وقد قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» (١) فالطاعة في الأمر ليس لها حدود ، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع. أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان.
ويهيب بهم إلى الإنفاق :
__________________
(١) رواه الشيخان عن أبي هريرة.