ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ..
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟!
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد. ثم تجيء البقية :
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ..
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل. ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل.
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى :
(وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) ..
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان. فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز. كنز الإيمان. ويرتد إلى الكفر ، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ، ويهتدي بنوره بعد الضلال ، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. أو أشد. فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور.
لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) ..
* * *
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة. ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة ؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جرا إلى المودة ؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ. يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة. يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك. فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة ؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) .. التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها ؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها ـ كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله ـ وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم. ذلك أنه (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) .. لأن العروة التي تربطكم مقطوعة. وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله.
(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .. مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير.
* * *