وهو أدب رفيع ، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك. فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر ، أو ستر عورة ، في شأن عام او خاص ، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم. وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة. ولا يجوز أن يكون تجمعا جانبيا بعيدا عن علم الجماعة. فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرسول. وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة. وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا. ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة ، لأن الله حارسها وكالئها ؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاة ، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر. ولن يضر الشيطان المؤمنين .. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) .. وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم ، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم ..
(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .. فهو الحارس الحامي ، وهو القوي العزيز ، وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون إلا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين. فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
* * *
ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ : تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ. وَإِذا قِيلَ : انْشُزُوا فَانْشُزُوا ، يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ. وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ..
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين ، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق.
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة. وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق. وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالوا : السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عليهم. ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم. فعرف النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم. فشق ذلك على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان. وأنت يا فلان. فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر. فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الكراهة في وجوههم. فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه .. فبلغنا أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه». فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم. ونزلت هذه الآية يوم الجمعة.
وإذا صحت هذه الرواية فإنها لا تتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه. كما جاء في الصحيحين : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا» ..