ومرد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع ، إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم ، وما وراء أعمالهم من عزائمهم ونواياهم. وخبرته تعالى بحقيقة ما يعملون :
(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ..
وهي لمسة موقظة للقلوب ، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة ، وهي التي تناط بها القيم ، وترجح بها الموازين ..
* * *
ثم مرحلة أخرى في استجاشة القلوب للإيمان والبذل ، ومؤثرات أخرى وراء تلك المؤثرات :
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ؟ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ. قِيلَ : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا : بَلى! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ، وَتَرَبَّصْتُمْ ، وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ..
إنه هتاف موح مؤثر آسر. وهو يقول للعباد الفقراء المحاويج : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً؟) .. ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه ، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيرانا! إن الناس ليتسابقون عادة إلى إقراض الثري المليء منهم ـ وهم كلهم فقراء ـ لأن السداد مضمون. ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثرى المليء! فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد؟!
ولا يكلهم ـ سبحانه ـ إلى هذا الشعور وحده ، ولكن يعدهم على القرض الحسن ، الخالص له ، المجرد من كل تلفت إلى سواه. يعدهم عليه الضعف في المقدار ، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).
ثم يعرض لهم صفحة وضيئة من ذلك الأجر الكريم ، في مشهد من مشاهد اليوم الذي يكون فيه ذلك الأجر الكريم.
«والمشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد ـ بين المشاهد القرآنية ـ وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسما قويا. فنحن الذين نقرأ القرآن اللحظة نشهد مشهدا عجيبا. هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم. ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا. ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم. فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نورا يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها .. إنه النور الذي أخرجها الله إليه وبه من الظلمات. والذي أشرق في أرواحها فغلب على طينتها. أم لعله النور الذي خلق الله منه هذا الكون وما فيه ومن فيه (١) ، ظهر بحقيقته في هذه المجموعة التي حققت في ذواتها حقيقتها! «ثم ها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات من تكريم وتبشير : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي
__________________
(١) المعتقد الآن أن مادة الكون هي النور. وأنه مؤلف من ذرات. وأن الذرة في حقيقتها ليست سوى إشعاع. وقد تكون هذه النظرية أقرب النظريات إلى الصحة ، لأنها تسير على درب القرآن!