نارهم. على الطريقة البدائية التي لا تزال مستعملة في البيئات البدائية حتى الآن. فالأمر أظهر وأقرب إلى تجاربهم المعروفة. أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام. وبمناسبة ذكر النار يلمع السياق إلى نار الآخرة : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تذكر بالنار الأخرى .. كما جعلناها (مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) .. أي للمسافرين. وكان لهذه الإشارة وقعها العميق في نفوس المخاطبين ، لما تمثله في واقع حياتهم من مدلول حي حاضر في تجاربهم وواقعهم.
* * *
وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار ، الناطقة بدلائل الإيمان. الميسرة للقلوب والأذهان يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق. حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته. وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان. فيهيب بالرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها ؛ ويلمس القلوب بها في حينها :
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ..
* * *
ثم يلتفت التفاتة أخرى إلى المكذبين بهذا القرآن ؛ فيربط بينه وبين هذا الكون في قسم عظيم من رب العالمين :
(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ـ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ـ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..
ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل ، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. ومن ثم قال لهم : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ) .. فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به ، نصيبا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون. وإن كنا نحن أيضا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم ...
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة ، المحدودة المناظير ، يقول لنا : إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدودا. مجموعة واحدة ـ هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية ـ تبلغ ألف مليون نجم!
«ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض ؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة. وهو احتمال بعيد ، وبعيد جدا. إن لم يكن مستحيلا (١)».
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته ، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب ، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل.
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم ، وهو أكبر كثيرا جدا مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة. وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم!
__________________
(١) كتاب : الله والعلم الحديث ص ٣٣.