«والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان ، وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة.
«ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير ، الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا. ويبلغ طول هذه السلسلة ، ألفا و ٣٥٠ ميلا. وعرضها ٥٠ ميلا. وهي مكونة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم (١)».
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ حلى غالية الثمن عالية القيمة ، ويمتن الله على عباده بهما ، فيعقب على ذكرهما في السورة ذلك التعقيب المشهود : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟)
ثم ينتقل إلى الفلك التي تجري في البحار ، كأنها لضخامتها الجبال :
(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ..
ويجعل هذه الجواري المنشآت (لَهُ) سبحانه وتعالى. فهي تجري بقدرته. ولا يحفظها في خضم البحر وثبج الموج إلا حفظه ولا يقرها على سطحه المتماوج إلا كلاءته. فهي له سبحانه. وقد كانت ـ وما تزال ـ من أضخم النعم التي منّ الله بها على العباد ، فيسرت لهم من أسباب الحياة والانتقال والرفاهية والكسب ما هو جدير بأن يذكر ولا ينكر. فهو من الضخامة والوضوح بحيث يصعب التكذيب به والإنكار .. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
* * *
والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعا ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفردا بالبقاء ، متفردا بالجلال ؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) ..
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح ... وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض .. وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح ، والزمان والمكان ، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار ..
ولا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف ؛ ولا يملك أن يزيد شيئا على النص القرآني ، الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع ، والجلال الغامر ، والصمت الرهيب ، والذي يرسم مشهد الفناء الخاوي ، وسكون الموت المخيم بلا حركة ، ولا نأمة في هذا الكون الذي كان حافلا بالحركة والحياة. ويرسم في الوقت ذاته حقيقة البقاء الدائم ، ويطبعها في الحس البشري الذي لا يعرف في تجاربه صورة للبقاء الدائم ؛ ولكنه يدركها بعمق في ذلك النص القرآني العجيب!
ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب. فيعد استقرار هذه الحقيقة. حقيقة الفناء لكل من عليها ، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده. يعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس في معرض الآلاء : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) ..
وإنها لنعمة ، بل هي أساس النعم كلها جميعا. فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق ؛ وناموسه
__________________
(١) المصدر السابق ص ١٠٦ ـ ١٠٧.