التي تقوم عليها سائر النعم. ومن ثم يعقب عليها بتعقيب التسجيل والإشهاد العام : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) .. ولا تكذيب في هذا المقام المشهود!
* * *
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟)
وهذه الإشارة التي تملأ القلب بفيض غامر من الشعور بوجود الله ، حيثما توجه ، وحيثما تلفت ، وحيثما امتد به النظر حوله في الآفاق .. فحيث الشروق وحيث الغروب هناك الله .. ربوبيته ومشيئته وسلطانه ، ونوره وتوجيهه وهدايته ..
والمشرقان والمغربان قد يكون المقصود بهما شروق الشمس وشروق القمر. وغروبهما كذلك ، بمناسبة ذكر الشمس والقمر فيما تقدم من آلاء الله. وقد يكون المقصود مشرقي الشمس المختلفي الموضع في الصيف والشتاء ومغربيها كذلك.
وعلى أية حال فإن ظلال هذه الإشارة هي الأولى بالالتفات. ظلال الاتجاه إلى المشرق والمغرب ، والشعور بالله هناك ، والإحساس بيده تحرك الكواكب والأفلاك ، ورؤية نوره وربوبيته في الآفاق هنا وهناك. والرصيد الذي يؤوب به القلب من هذا التأمل والتدبر والنظر في المشارق والمغارب ، والزاد الشعوري الذي تفيض به الجوانح وتذخره الأرواح.
وربوبية الله للمشرقين والمغربين ، بعض آلائه في هذا الكون. ومن ثم يجيء التعقيب المعهود في السورة ، بعد هذه اللفتة القصيرة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) والمشرقان والمغربان فوق أنهما من آيات الله هما من آلاء الله على الجن والإنس ، بما يتحقق فيهما من الخير لسكان هذه الأرض جميعا. بل من أسباب الحياة التي تنشأ مع الشروق ، وتحتاج كذلك إلى الغروب. ولو اختل أحدهما أو كلاهما لتعطلت أسباب الحياة ..
* * *
ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض ، وما فيها من ماء ، جعله الله بقدر. قدر في نوعه ، وقدر في تصريفه ، وقدر في الانتفاع به :
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) ..
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار. ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان ، ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله.
وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجئ مصادفة ولا جزافا. فهو مقدر تقديرا عجيبا. الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض ؛ ويشغل اليابس الربع. وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائما صالحا للحياة.
«وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ـ ومعظمها سام ـ فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع ـ ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان .. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة