ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين. الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة .. عظيمة. وغضروفية. وعضلية. وعصبية. وجلدية .. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة : السمع. البصر. الذوق. الشم. اللمس. ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم : الإدراك والبيان ، والشعور والإلهام .. كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة ، التي لا تكاد تبين ، والتي لا تبين!
كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن ، وبصنع الرحمن.
فلننظر كيف يكون البيان؟ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ..
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب .. اللسان والشفتان والفك والأسنان. والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان .. إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة ، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه. ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته!
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة. مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.
إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل ـ لا ندري كيف ـ من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال : إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان ، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل .. عاليا أو خافتا. سريعا أو بطيئا. خشنا أو ناعما. ضخما أو رفيعا .. إلى آخر أشكال الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان ، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين ، يتم فيه الضغط المعين ، ليصوّت الحرف بجرس معين ..
وذلك كله لفظ واحد .. ووراءه العبارة. والموضوع. والفكرة. والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب ، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب ، بصنعة الرحمن ، وفضل الرحمن.
* * *
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام :
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ..
حيث تتجلى دقة التقدير ، في تنسيق التكوين والحركة ، بما يملأ القلب روعة ودهشة ، وشعورا بضخامة هذه الإشارة ، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار.
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام. فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودا ، ملايين الملايين من النجوم ، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءا. فالشعرى اليمانية أثقل من الشمس