واحدة لا تحتاج إلى جهد ، ولا تحتاج إلى زمن. واحدة فيها القدرة ومعها التقدير. وكل أمر معها مقدر ميسور.
* * *
وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون. وفي هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ).
فهذه مصارع المكذبين ، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل .. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) .. يتذكر ويعتبر؟
ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة ، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) .. مسطر في الصحائف ليوم الحساب : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) .. لا ينسى منه شيء وهو مسطور في كتاب!
* * *
وعند هذا الحد من العرض والتعقيب ، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين. ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين. صورة المتقين :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ..
ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر. يسحبون في النار على وجوههم في مهانة. ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ..
وهي صورة للنعيم بطرفيه : (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ). (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل : (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب .. وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة (نَهَرٍ) بفتح الهاء. بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير!
ونعيم القلب والروح. نعيم القرب والتكريم : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) .. فهو مقعد ثابت مطمئن ، قريب كريم ، مأنوس بالقرب ، مطمئن بالتمكين. ذلك أنهم المتقون. الخائفون. المترقبون. والله لا يجمع على نفس خوفين : خوفها منه في الدنيا ، وخوفها يوم القيامة. فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة. ومع الأمان في أفزع موطن ، يغمره بالأنس والتكريم.
* * *
وعند هذا الإيقاع الهادئ ، في هذا الظل الآمن ، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير. فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح .. وهذه هي التربية الكاملة. تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب. وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر ، وهو اللطيف الخبير ..
* * *