ولكن هذه
الموضوعات ذاتها تعرض في هذه السورة عرضا خاصا ، يحيلها جديدة كل الجدة. فهي تعرض
عنيفة عاصفة ، وحاسمة قاصمة ؛ يفيض منها الهول ، ويتناثر حولها الرعب ، ويظللها
الدمار والفزع والانبهار!
وأخص ما يميزها
في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة. يشهدها
المكذبون ، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها ، ويحسون إيقاعات سياطها. فإذا انتهت الحلقة
وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا ..
وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق. فيطل المشهد الأخير في
السورة. وإذا هو جو آخر ، ذو ظلال أخرى. وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه
مشهد المتقين : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) .. في وسط ذلك الهول الراجف ، والفزع المزلزل ، والعذاب
المهين للمكذبين : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ..
فأين وأين؟
مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟
* * *
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا :
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ. حِكْمَةٌ
بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى
شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ
جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ : هذا يَوْمٌ
عَسِرٌ) ..
مطلع باهر مثير
، على حادث كوني كبير ، وإرهاص بحادث أكبر. لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير
:
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ..
فيا له من
إرهاص! ويا له من خبر. ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث
الأكبر.
والروايات عن
انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة. تتفق كلها في إثبات
وقوع الحادث ، وتختلف في رواية هيئته تفصيلا وإجمالا :
من رواية أنس
بن مالك ـ رضي الله عنه ـ .. قال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس
ابن مالك قال : سأل أهل مكة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ آية. فانشق القمر بمكة مرتين فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ) .. وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبد الوهاب. حدثنا
بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك. أن أهل مكة
سألوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يريهم آية. فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء
بينهما. وأخرجه الشيخان من طرق أخرى عن قتادة عن أنس ..
ومن رواية جبير
بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ .. قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان
ابن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : انشق
القمر على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فصار فلقتين. فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل
، فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم
.. تفرد به أحمد من هذا الوجه .. وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير
عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن .. ورواه ابن جرير والبيهقي من
طرق أخرى عن جبير بن مطعم كذلك ..