والاعتبار الثاني : أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة ، وهم يستمعون إلى محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان .. والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش.
روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة ، ابن الزبير ، عن أبيه ، عن هناد بن الأسود ، قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ، ولأوذينه في ربه (سبحانه وتعالى). فانطلق حتى أتى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا محمد. هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى .. فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» .. ثم انصرف عنه ، فرجع إلى أبيه ، فقال : يا بني ، ما قلت له؟ فذكر له ما قاله. فقال : فما قال لك؟ قال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه! فسرنا حتى نزلنا أبراه ـ وهي في سدة ـ ونزلنا إلى صومعة راهب. فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد؟ فإنها يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم! فقال أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ؛ وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها. ففعلنا. فجاء الأسد فشم وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع ، فشم وجهه ، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه. فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد!
هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب. أشد المخاصمين لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ المناوئين له ، المؤلبين عليه هو وبيته. المدعو عليه في القرآن هو وبيته : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) .. وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد. وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله أمام دعوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على ابنه.
والحادث الثاني : صاحبه عتبة بن أبي ربيعة. وقد أرسلته قريش إلى محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم ، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج. فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاستمع مني». قال : أفعل. قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) .. ثم مضى حتى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) .. عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في ذعر وهو يقول : ناشدتك الرحم أن تكف .. وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر. ويعقب عليه يقول : وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب (١).
فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم. والارتجاف فيه ظاهر. والتأثر المكبوت أمام العناد والمكابرة ظاهر.
ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها. وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين .. بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين!
__________________
(١) ملخصة من روايات عدة.