نعيش لحظات مع قلب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار. يتلقى من الملأ الأعلى. يسمع ويرى ، ويحفظ ما وعى. وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ؛ ولكن الله يمن على عباده ، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا. ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم. يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى ، في رحاب الملأ الأعلى. يصفها لهم خطوة خطوة ، ومشهدا مشهدا ، وحالة حالة ، حتى لكأنهم كانوا شاهديها.
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) .. وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه. أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) .. وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى.
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) .. وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم. وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى ، التي كان بعضهم يعبدها. والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) .. وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير. ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى. ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها. ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء. فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها. ويكون اختيار مشهد هويّ النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه. ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه. فلا يليق أن يكون معبودا. فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام.
ذلك هو القسم. فأما المقسم عليه ، فهو أمر النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مع الوحي الذي يحدثهم عنه :
(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ..
فصاحبكم راشد غير ضال. مهتد غير غاو. مخلص غير مغرض. مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع. ولا ناطق عن الهوى فيما يبلغكم من الرسالة. إن هو إلا وحي يوحى. وهو يبلغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا.
هذا الوحي معروف حامله. مستيقن طريقه. مشهودة رحلته. رآه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رأي العين والقلب ، فلم يكن واهما ولا مخدوعا :
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) ..
والشديد القوي ذو المرة «أي القوة» ، هو جبريل ـ عليهالسلام ـ وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم. وهذا هو الطريق ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها : استوى وهو بالأفق الأعلى. حيث رآه محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكان ذلك في مبدأ الوحي. حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل. ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه. فكان أقرب ما يكون منه. على بعد ما بين القوسين أو أدنى ـ وهو تعبير عن منتهى القرب ـ فأوحى إلى عبد الله ما أوحى. بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل.
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد. وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن.
وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية ، ولا تحتمل مماراة أو مجادلة : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) .. ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت ، لأنها تنفي خداع النظر. فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك ، حامل الوحي ، رسول ربه إليه ، ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم. وانتهى المراء والجدال ، فما عاد لهما