وهي إشارة سريعة تلمس القصة لمسة واحدة بدون إيضاح. كأنما ليقال : واذكر قوم نوح. وقد وردت (قَوْمَ) منصوبة وبدون لفظ «في» بتقدير كلمة «اذكر» قبلها. وتلتها (وَالسَّماءَ بَنَيْناها ..) معطوفة عليها .. وهذه آية كونية ، وتلك آية تاريخية. يربطهما السياق معا ، ويربط بهما هذا القطاع بالقطاع الثالث في السورة ..
* * *
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
إنها عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة ، في صورة من صوره الكثيرة التي يجلوها القرآن للقلوب. واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك ، يصل آية نوح بآية السماء وآية الأرض وآية الخلائق. ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين.
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ..
والأيد : القوة. والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق. بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء. سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب. أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم. أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب .. أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء.
والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين ، لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب.
ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قال من قبل : إنها في السماء ولو أن السماء هناك مجرد رمز إلى ما عند الله. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا معينة ، يبدو أنها مقصودة في التعبير ، لخطاب المشاعر البشرية خطابا موحيا.
ومثلها الإشارة الأخرى إلى الأرض الممهودة المفروشة :
(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) ..
فقد أعد الله هذه الأرض لتكون مهدا للحياة كما أسلفنا. والفرش يوحي باليسر والراحة والعناية. وقد هيئت الأرض لتكون محضنا ميسرا ممهدا ، كل شيء فيه مقدر بدقة لتيسير الحياة وكفالتها : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) ..
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ..
وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض ـ وربما في هذا الكون. إذ أن التعبير لا يخصص الأرض ـ قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شَيْءٍ) تشمل غير الأحياء أيضا. والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.
وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا. وأن فكرة عموم الزوجية ـ حتى في الأحياء ـ لم تكن معروفة حينذاك. فضلا على عموم الزوجية في كل شيء .. حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم .. وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير!
كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة. وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة. وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء : موجب وسالب! فقد