من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال : اتل عليّ. فتلوت : (وَالذَّارِياتِ) .. فلما بلغت قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) قال : حسبك! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ؛ وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى! فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ؛ فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق. فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر. فسلم عليّ واستقرأ السورة. فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) .. فصاح قال : يا سبحان الله. من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين! قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه» ..
وهي نادرة تصح أو لا تصح. ولكنها تذكرنا بجلال هذا القسم من الله سبحانه. القسم بذاته. بصفته : رب السماء والأرض. مما يزيد الحقيقة المقسم عليها جلالا. وهي حقيقة بلا قسم ولا يمين.
* * *
ذلك كان القطاع الأول في السورة. أما القطاع الثاني فيشمل تلك الإشارات إلى قصص إبراهيم ، ولوط ، وموسى ، وعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، وقوم نوح .. وهو مرتبط بما قبله ، ومرتبط كذلك بما بعده في سياق السورة.
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ؟ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ، فَقالُوا : سَلاماً. قالَ : سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ ؛ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً. قالُوا : لا تَخَفْ ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها ، وَقالَتْ : عَجُوزٌ عَقِيمٌ. قالُوا : كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ، إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. قالَ : فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟ قالُوا : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ. فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ..
إنها آية أو آيات في تاريخ الرسالات. كتلك الآيات التي أشار إليها في الأرض وفي الأنفس. وإنه وعد أو وعود تتحقق من تلك الوعود التي أشار إلى تحققها في القطاع السابق.
ويبدأ الحديث عن إبراهيم بالسؤال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ؟) .. تنويها بهذا الحديث ، وتهيئة للأذهان. مع وصف ضيف إبراهيم بالمكرمين ؛ إما لأنهم كذلك عند الله ؛ وإما إشارة إلى إكرام إبراهيم لهم كما ورد في القصة.
ويبدو كرم إبراهيم وسخاؤه وإرخاصه للمال واضحا. فما يكاد ضيفه يدخلون عليه ويقولون : سلاما. ويرد عليهمالسلام ، وهو ينكرهم ولا يعرفهم. ما يكاد يتلقى السلام ويرده حتى يذهب إلى أهله ـ أي زوجه ـ مسارعا ليهيئ لهم الطعام. ويجيء به طعاما وفيرا يكفي عشرات : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) .. وهم كانوا ثلاثة فيما يقال .. تكفيهم كتف من هذا العجل السمين!
(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ. قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ؟) .. وجاء هذا السؤال بعد أن رأى أيديهم لا تصل إليه ، ولا يبدو عليهم أنهم سيأكلون طعامه.
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) .. إما لأن الطارئ الذي لا يأكل طعام مضيفة ينبئ عن نية شر وخيانة. وإما لأنه لمح أن فيهم شيئا غريبا! عندئذ كشفوا له عن حقيقتهم أو طمأنوه وبشروه : (قالُوا : لا تَخَفْ. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) .. وهي البشارة بإسحاق من زوجه العقيم.