مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) .. وذكر هذه النعوت يزيد في حرج الموقف وشدته. فهو دلالة غضب الجبار القهار في الموقف العصيب الرهيب ؛ وهي نعوت قبيحة مستحقة لتشديد العقوبة : كفار. عنيد. مناع للخير. معتد. مريب. الذي جعل مع الله إلها آخر. وتنتهي بتوكيد الأمر الذي لا يحتاج إلى توكيد : (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) بيانا لمكانه من جهنم التي بدأ الأمر بإلقائه فيها.
عندئذ يفزع قرينه ويرتجف ، ويبادر إلى إبعاد ظل التهمة عن نفسه ، بما أنه كان مصاحبا له وقرينا : (قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) .. وربما كان القرين هنا غير القرين الأول الذي قدم السجلات. ربما كان هو الشيطان الموكل به ليغويه. وهو يتبرأ من إطغائه ؛ ويقرر أنه وجده ضالا من عند نفسه ، فاستمع لغوايته! وفي القرآن مشاهد مشابهة يتبرأ فيها القرين الشيطاني من القرين الإنساني على هذا النحو. على أن الفرض الأول غير مستبعد. فقد يكون القرين هو الملك صاحب السجل. ولكن هول الموقف يجعله يبادر إلى التبرؤ ـ وهو بريء ـ ليبين أنه مع صحبته لهذا الشقي ـ فإنه لم تكن له يد في أي مما كان منه. وتبرؤ البريء أدل على الهول المزلزل والكرب المخيف.
هنا يجيء القول الفصل ، فينهي كل قول : (قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ـ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .. فالمقام ليس مقام اختصام. وقد سبق الوعيد محددا جزاء كل عمل. وكل شيء مسجل لا يبدل. ولا يجزى أحد إلا بما هو مسجل. ولا يظلم أحد ، فالمجازي هو الحكم العدل.
بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته ؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي. بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف :
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ : وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟).
إن المشهد كله مشهد حوار. فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب .. هذا هو كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب .. هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعا ، وتتكدس ركاما. ثم تنادى جهنم : (هَلِ امْتَلَأْتِ؟) واكتفيت! ولكنها تتلمظ وتتحرق ، وتقول في كظة الأكول النهم : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟!) .. فيا للهول الرعيب!
وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف ، رضيّ جميل. إنه مشهد الجنة ، تقرب من المتقين ، حتى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم :
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).
والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة. فالجنة تقرب وتزلف ، فلا يكلفون مشقة السير إليها ، بل هي التي تجيء : (غَيْرَ بَعِيدٍ)! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) .. فيوصفون هذه الصفة من الملأ الأعلى ، ويعلمون أنهم في ميزان الله أوابون ، حفيظون ، يخشون الرحمن ولم يشهدوه ، منيبون إلى ربهم طائعون.
ثم يؤذن لهم بالدخول بسلام لغير ما خروج : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) ..
ثم يؤذن في الملأ الأعلى ، تنويها بشأن القوم ، وإعلانا بما لهم عند ربهم من نصيب غير محدود : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ، وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) .. فمهما اقترحوا فهم لا يبلغون ما أعد لهم. فالمزيد من ربهم غير محدود ..
* * *