(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
إنما يخاف الذين ظلموا. ذلك إلا أن يبدلوا حسنا بعد سوء ، ويدعوا الظلم إلى العدل ؛ ويدعوا الشرك إلى الإيمان ، ويدعوا الشر إلى الخير. فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم.
والآن وقد اطمأن موسى وقر ، يجهزه ربه بالمعجزة الثانية ، قبل أن يكشف له عن جهة الرسالة ووجهة التكليف :
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ..
وكان هذا. وأدخل موسى يده في فتحة ثوبه ـ وهي جيبه ـ فخرجت بيضاء مشرقة لا عن مرض ، ولكن عن معجزة. ووعده ربه أن يؤيده بتسع آيات من هذا النوع الذي شاهد منه اثنتين ؛ وكشف له حينئذ عن وجهته التي من أجلها دعاه وجهزه ورعاه!
(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..
ولم يعدد هنا بقية هذه الآيات التسع ، التي كشف عنها في سورة الأعراف. وهي سنوان الجدب ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم. لأن التركيز هنا على قوة الآيات لا على ماهيتها. وعلى وضوحها وجحود القوم لها :
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ..
هذه الآيات الكثيرة العدد ، الكاشفة عن الحق ، حتى ليبصره كل من له عينان. ويصف هذه الآيات نفسها بأنها مبصرة ، فهي تبصر الناس وتقودهم إلى الهدى. ومع هذا فقد قالوا عنها : إنها سحر مبين! قالوا ذلك لا عن اقتناع به ، ولا عن شبهة فيه. إنما قالوه «ظلما وعلوا» وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ). قالوا جحودا ومكابرة ، لأنهم لا يريدون الإيمان ، ولا يطلبون البرهان. استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم.
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن ، ويستيقنون أنه الحق ، ولكنهم يجحدونه ، ويجحدون دعوة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إياهم إلى الله الواحد. ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم ، لما وراءها من أوضاع تسندهم ، ومغانم تتوافد عليهم. وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة ، التي يحسون خطر الدعوة الإسلامية عليها ، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم ، وترتج في ضمائرهم. ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب!
وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه. بل لأنهم يعرفونه! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم ، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم ، أو الخطر على أوضاعهم ، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم. فيقفون في وجهه مكابرين ، وهو واضح مبين.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ..
وعاقبة فرعون وقومه معروفة ، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى. إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة ، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه ، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين.
* * *