وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى ابن مريم ، فيقول أميرهم : تعال : صل لنا. فيقول : لا. إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة» (١).
وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم ، ولا قول فيه لبشر إلا ما جاء من هذين المصدرين الثابتين إلى يوم الدين.
(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها. وَاتَّبِعُونِ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ..
وكانوا يشكون في الساعة ، فالقرآن يدعوهم إلى اليقين. وكانوا يشردون عن الهدى ، والقرآن يدعوهم على لسان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى اتباعه فإنه يسير بهم في الطريق المستقيم ، القاصد الواصل الذي لا يضل سالكوه.
ويبين لهم أن انحرافهم وشرودهم أثر من اتباع الشيطان. والرسول أولى أن يتبعوه :
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..
والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم ، ومنذ المعركة الأولى في الجنة. وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدوا يقف له بالمرصاد ، عن عمد وقصد ، وسابق إنذار وإصرار ؛ ثم لا يأخذ حذره ؛ ثم يزيد فيصبح تابعا لهذا العدو الصريح!
وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض ؛ ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر ، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر. وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة ؛ التي تجعل من الإنسان إنسانا ، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع! والتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان ؛ فينتصر على الشر والخبث والرجس ؛ ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر.
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى ـ عليهالسلام ـ وحقيقة ما جاء به ؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده :
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ..
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه ، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم. وقال لقومه : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ). ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير ؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور. وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه. وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى ـ عليهالسلام ـ وانقسموا فرقا وشيعا. ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله. وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) .. ولم يقل : إنه إله ، ولم يقل : إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد
__________________
(١) أخرجه مسلم.