يُنادِيهِمْ : أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..
والساعة غيب غائر في ضمير المجهول. والثمرات في أكمامها سر غير منظور ، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور. وكلها في علم الله ، وعلم الله بها محيط. ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها ، والأجنة في أرحامها. يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى ؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود.
ويتصور القطيع الضال من البشر ، واقفا أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ : أَيْنَ شُرَكائِي؟) ..
هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال ، ولا تحريف للكلم ولا محال. فماذا هم قائلون؟
(قالُوا : آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ؟) ..
أعلمناك ، أن ليس منا اليوم من يشهد أنك لك شريك!
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..
فما عادوا يعرفون شيئا عن دعواهم السابقة. ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل ، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله ؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه.
* * *
ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له ، ولا يحترسون منه ، مع شدة حرص الإنسان على الخير ، وجزعه من الضر .. وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء ، مكشوفة من كل ستار ، عاطلة من كل تمويه :
(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ : هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ..
إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية ، التي لا تهتدي بهدى الله ، فتستقيم على طريق .. رسم يصور تقلبها ، وضعفها ، ومراءها ، وحبها للخير ، وجحودها للنعمة ، واغترارها بالسراء ، وجزعها من الضراء .. رسم دقيق عجيب ..
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير. فهو ملح فيه ، مكرر له ، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه. وإن مسه الشر. مجرد مس. فقد الأمل والرجاء ؛ وظن أن لا مخرج له ولا فرج ، وتقطعت به الأسباب ؛ وضاق صدره وكبر همه ؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته. ذلك أن ثقته بربه قليلة ، ورباطه به ضعيف!
وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر ، استخفته النعمة فنسي الشكر ؛ واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره. وقال : هذا لي. نلته باستحقاقي وهو دائم علي! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون ؛ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) .. وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله ، ويحسب لنفسه مقاما عنده ليس له ، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله. ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده! (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي