(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ..
وأني للباطل أن يدخل على هذا الكتاب. وهو صادر من الله الحق. يصدع بالحق. ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟
وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز. محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به ، والذي نزل ليقره. يجده في روحه ويجده في نصه. يجده في بساطة ويسر. حقا مطمئنا فطريا ، يخاطب أعماق الفطرة ، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب.
وهو (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .. والحكمة ظاهرة في بنائه ، وفي توجيهه ، وفي طريقة نزوله ، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق. والله الذي نزله خليق بالحمد. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير.
ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله ؛ وبين رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وسائر الرسل قبله. ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثا واحدا ، ترتبط به أرواحها وقلوبها ، وتتصل به طريقها ودعوتها ؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجرة وارفة عميقة الجذور ، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ :
(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ..
إنه وحي واحد ، ورسالة واحدة ، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية ، وتكذيب واحد ، واعتراضات واحدة .. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة ، وشجرة واحدة ، وأسرة واحدة ، وآلام واحدة ، وتجارب واحدة ، وهدف في نهاية الأمر واحد ، وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس ، والقوة ، والصبر ، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة ، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعا ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها ، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) .. ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن ، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب.
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خاتم الرسل :
(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ..
ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن. فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبدا. ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبدا.
إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل.
ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربيا بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :