إن قصة هذا الأمر
قصة طويلة وقديمة ، ولم تبدأ برسالة الإسلام ورسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقبله
كانت رسل. قص الله بعضهم عليه وبعضهم لم يقصصهم عليه. وكلهم ووجهوا بالتكذيب
والاستكبار. وكلهم طولب بالآيات والخوارق. وكلهم تمنى لو يأتي الله بخارقة يذعن
لها المكذبون. ولكن ما من آية إلا بإذن الله ، في الوقت الذي يريده الله. فهي
دعوته ، وهو يصرفها كيف يشاء.
على أن آيات
الله مبثوثة في الكون ، معروضة للأنظار في كل زمان ومكان. يتحدث منها هنا عن
الأنعام ، والفلك ، ويشير إشارة عامة إلى سائرها الذي لا يملك إنكاره أحد.
ويختم السورة
بلمسة قوية عن مصارع الغابرين ، الذين وقفوا موقف المكذبين ، وغرهم ما كانوا فيه
من القوة والعمارة والعلم. ثم أدركتهم سنة الله : (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) ..
وبهذا الإيقاع
تختم السورة التي دارت كلها على المعركة بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ،
والصلاح والطغيان حتى ختمت هذا الختام الأخير ..
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ ؛ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ ، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ) ..
إن لهذا الأمر
سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه. وفيما
قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم ؛ وما يقرر
السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف ؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل
وحدودها أدق إيضاح.
وتؤكد الآية
حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكئ عليها لتقررها تقريرا شديدا :
(وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ..
فالنفس البشرية
ـ ولو كانت نفس رسول ـ تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون
سريعا. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن
يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ؛ ويروضوا أنفسهم عليه ؛ فيبين لهم أن ليس لهم
من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه
حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا
الأمر كله بعد ذلك لله.
ويريد كذلك أن
يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم
الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه
الوظيفة ..
كذلك ليعلم
الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم ؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد
ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :
(فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ..
ولم يعد هناك
مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير.
* * *
ثم يوجه طلاب
الخوارق إلى آيات الله الحاضرة التي ينسون وجودها بطول الألفة. وهي لو تدبروها بعض