(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ..
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت. وهو يتوفاها كذلك في منامها ـ وإن لم تمت بعد ـ ولكنها في النوم متوفاة إلى حين. فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ. والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو. إلى أن يحل أجلها المسمى. فالأنفس في قبضته دائما في صحوها ونومها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
* * *
إنهم هكذا في قبضة الله دائما. وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها. وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين .. فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص؟
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ؟ قُلْ : أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ؟ قُلْ : لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ..
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى! (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ؟) .. يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعا. فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء. فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء؟!
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. فليس هنا لك خارج على إرادته في هذا الملك .. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف ..
* * *
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك ، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود :
(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد. ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان. فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلها ، وإلى شريعة الله وحدها قانونا ، وإلى منهج الله وحده نظاما. حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث ، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد. هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجا منهم في هذه الآية ، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان. هم الممسوخو الفطرة ، المنحرفو الطبيعة ، الضالون المضلون ، مهما تنوعت البيئات والأزمنة ، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام.
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في مواجهة مثل هذه الحال :
(قُلِ : اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض ؛ ويتعذر عليها أن تجد لها خالقا إلا الله فاطر السماوات والأرض ، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار. وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض. (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) المطلع