سقيم» .. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات. فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق ـ وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.
قال ذلك معبرا عن ضيقه وتعبه. وأفصح عنه ليتركوه وشأنه. ولم يكن هذا كذبا منه. إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم. وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه!
وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد ؛ فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره ، بل تولوا عنه مدبرين ، مشغولين بما هم فيه. وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.
لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة. وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار. فقال في تهكم : «ألا تأكلون؟» .. ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال. فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية : «ما لكم لا تنطقون؟» .. وهي حالة نفسية معهودة. أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته ، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف! .. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!! وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولا : «فراغ عليهم ضربا باليمين» .. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق ...! وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع ، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجها لوجه أمام إبراهيم!
«فأقبلوا إليه يزفون» ..
لقد تسامعوا بالخبر ، وعرفوا من الفاعل ، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفا .. وهم جمع كثير غاضب هائج ، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه. عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه ، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة ، المدخولة العقيدة ، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم! «قال : أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون؟» ..
إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم : «أتعبدون ما تنحتون؟» .. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع : «والله خلقكم وما تعملون» .. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.
ومع وضوح هذا المنطق وبساطته ، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له ـ ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ ـ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة :
«قالوا : ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» ..
إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقا سواه ؛ عند ما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.
ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك ، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين :
«فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين» ..
وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل ـ من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء ـ إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟ ..