وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر ، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافا كاملا.
ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله :
(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ..
(حَلِيماً) يمهل الناس ، ولا ينهي هذا العالم بهم ، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد. (غَفُوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيرا. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود.
* * *
والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه ، ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد ، وفساد في الأرض. وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تبديل فيها ولا تحويل :
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ـ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ـ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ؟ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..
ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ؛ وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون ؛ وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم ، وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به. وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ؛ ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالا للتشديد في القسم : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) .. يعنون اليهود. يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون!
ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم .. يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم. ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم ، وأرسل فيهم نذيرا :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ!) ..
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم استكبارا في الأرض ومكر السيّء. والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك. ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :
(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ..
فما يصيب مكرهم السيّء أحدا إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم.
وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن؟ إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم. وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..
* * *
والأمور لا تمضي في الناس جزافا ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثا ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا