يحوي هذا الشوط صورا من الشكر والبطر ؛ وصورا من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقا لا تسخر عادة للبشر. ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر. وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون. وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان ، وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره. وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة. وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة ..
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، وَاعْمَلُوا صالِحاً. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..
وداود عبد منيب ، كالذي ختم بذكره الشوط الأول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة ؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل. ثم يبين هذا الفضل :
(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) ..
وتذكر الروايا أن داود عليهالسلام أوتي صوتا جميلا خارقا في الجمال ؛ كان يرتل به مزاميره ، وهي تسابيح دينية ، ورد منها في كتاب «العهد القديم» ما الله أعلم بصحته. وفي الصحيح أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سمع صوت أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته. ثم قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لقد أوتي هذا مزمارا من زمامير آل داود».
والآية تصور من فضل الله على داود ـ عليهالسلام ـ أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات ؛ فاتصلت حقيقتها بحقيقته ، في تسبيح بارئها وبارئه ؛ ورجّعت معه الجبال والطير ، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز ، حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة ؛ تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع ، وبين كائن من خلق الله وكائن ؛ وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة ، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق ؛ فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق ، وتتلاقى في نعمة واحدة ، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ، يزيح عنه حجاب كيانه المادي ، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود ، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود.
وحين انطلق صوت داود ـ عليهالسلام ـ يرتل مزاميره ويمجد خالقه ، رجّعت معه الجبال والطير ، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد ، المتجهة إلى بارئه الواحد .. وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر ، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته!
(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).
وهو طرف آخر من فضل الله عليه. وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر. فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلا للطرق ، إنما كان ـ والله أعلم ـ معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة. وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلا من الله يذكر. ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات ، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف.
(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).